الرعيّة كيان إداري ذات طابع ديني كنسي، حدّد أبعادها آباء المجمع التريدنتيني Concile de Trente(1545-1563) بقولهم إنها جماعة المؤمنين بالسيد المسيح، المعمّدين، الموجودين في مكان معين، والخاضعين لشخص الأسقف، ممثل المسيح على الأرض وراعي الأبرشيّة الذي ينتدب كاهناً، أو أكثر، لخدمة هذه الجماعة، والاحتفال بسر الإفخارستيا.
وهكذا يبدو أن العناصر الرئيسة التي تؤلف الرعيّة تقوم على مثلث قوامه:
- الجماعة المؤمنة
- كاهن الرعيّة
- وكنيسة الرعيّة
يشكل هذا المثلث، القائم على روابط روحية متينة، «المجتمع الديني» الملتزم ممارسة طقوسه بإيمان، والخاضع لسلطة الأسقف، الرئيس المباشر لهذه الرعيّة، ولسلطة البطريرك الماروني، رأس الهرم الكنسي.
أ ـ الجماعة المؤمنة
انقسمت غادير في وقت مبكر من القرن التاسع عشر رعيّتين: رعيّة سيدة الوردية، ورعيّة مار فوقا. ولما كان موضوع البحث يدور حول رعيّة مار فوقا فقد حصرنا كتابنا هذا، جغرافيّا بحدود رعيّة القديس الشهيد «فوقا»، وزمنيّاً بين سنة 1837 وسنة 1932، قدر المستطاع. واذا كنا نجهل دوافع الانقسام وعوامله وتاريخ الانفصال وحيثياته، بسبب ضياع المستندات التاريخية، إلا أننا ندرك ان التفاعل بين الرعيتين والتعاون كانا (وما زالا) قائمين لما فيه مصلحة الجماعتين الإيمانية والروحية ومصلحة الكنيسة بعامة.
تتألف رعيّة مار فوقا من مجموع الأسر التي عاشت في محيط الكنيسة، وتحلّقت حولها، والتفت حول كاهن رعيّة مار فوقا لتكريم الله وإقامة الذبيحة الإلهيّة وفق الطقوس المارونيّة المعروفة.
كانت رعيّة مار فوقا، يوم آلت إلى عهدة الخوري يوسف كاورك في العام 1837، تُعدّ 34 بيتاً، «بين غني وفقير». بيد ان هذا العدد قد ارتفع بفعل التزايد السكاني وتضاعف عدد البيوت وتفرع العوائل مرات ومرات مع مرور الزمن. فنمت الأسر، وتشكّل مجتمع الرعيّة بين 1837 و1932، من مجموعات مارونيّة بسوادها الأعظم.
وفي سبيل التكامل الروحي والاجتماعي والتطوّر الثقافي والمعرفي نشأت، وسط هذه الجماعة المؤمنة، الأخويات الدينية والمدارس، وأدّت الرعيّة دورها في انتخابات الأساقفة وفقاً للتقاليد المعمول بها.
ـ الأخويّات
نظّم المجمع اللبناني (1736) في أعماله دور العلمانيين في الكنيسة، وخصّهم بحيّز وافر من الاهتمام، وبدور طليعي مميز، معتبراً ان إنشاء الأخويّات والحركات الرسوليّة في الرعايا المسيحيّة هو من العادات الحميدة والعناصر المكمّلة لقيام مجتمع ديني ملتزم، طالما ان «الغرض منها ان يرتبط ذووها بشركة الأسرار الروحيّة وممارسة الفضائل الصالحة»؛ وعليه لا يُقبل في عداد هذه الجمعيّات إلا من امتاز بالتقوى وحسن الصيت.
يؤكد المونسنيور الشمالي هذا المنحى الروحي ويرى في الأخويّات الناهضة «نضارة وجوه الرعايا وماوية العافية الروحية في عروقها. فالرعيّة التي توجد فيها أخويّة منتعشة وعلى جذعها فرسان وزنابق وطلائع يعيشون في ظلالها، يزدهر فيها الايمان والتقوى والفضيلة وتسود المحبة والأخوة الصادقة بين أبنائها وعائلاتها». لهذا شجّعت الكنيسة انتشار هذه الجمعيّات في الرعايا المارونيّة، وكان لرعيّة مار فوقا الأخويّات التالي بيانها:
* أخويّة الميتة الصالحة
أنشأ هذه الأخويّة الخوراسقف يوسف اللاذقي في العقد الثامن من القرن التاسع عشر. وكان مرشدها الروحي، في سنة 1932، الخوراسقف يوسف الهوا؛ وتولّت السيدة لطيفة انطون هوشر، معلمة البنات السابقة في القرية، رئاستها. أما عمدة الجمعيّة في العام المذكور فكانت تتألف من:
– مريم زوجة ابراهيم البستاني
– ماري ارملة انطون بركات
– ميليا ارملة يوسف الترك
– ميليا زوجة كليم راشد.
وتشير المعلومات العائدة لسنة 1932 إلى انضمام 80 مشتركة تحت لواء هذه الجمعيّة.
* أخويّة الحبل بلا دنس للبنات
تأسست هذه الأخويّة أيضاً في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، وكانت في سنة 1932 بإدارة راهبات العائلة المقدسة المارونيات والآباء المرسلين اللبنانيين الموارنة، وبرئاسة ميليا جرجس داود الهوا. وقد قدّم أعضاء هذه الأخويّة في الأوّل من كانون الثاني 1928 تمثال السيدة العذراء الذي لا يزال في صالون الرعيّة.
* أخويّة مار فرنسيس الكبير
أنشأ القديس فرنسيس الأسيزي هذا النوع من الأخويات الدينيّة المعروفة بالرهبانيّة الثالثة. وكانت الغاية من هذا التأسيس التوفيق بين واجبات الحياة العلمانيّة المقيّدة بروابط الزواج المقدس وواجبات الحياة الرهبانية. والراهب «الثالثي هو جندي، سلاحه الصليب…»، وهو «في العالم كالنفس في الجسد»؛ عليه أن يتحلى بسيرة صالحة وأن يحب السلام ويتمسك بالدين الكاثوليكي ويخضع للكنيسة. آمن الاب يعقوب الحداد الكبوشي (1875 -1954) ان الرهبانية الثالثة هي وسيلة لاصلاح المجتمع المسيحي، فأطلقها سنة 1905 من كنيسة مار لويس- بيروت، ثم راح يعمل على تأسيس الفروع في معظم المناطق اللبنانية. وبناء على ذلك نالت غادير قسطاً من خدمات الأب يعقوب. فأسّس فيها مدرسة وفرعاً لهذه الرهبانيّة التي بلغ عدد أعضائها 344 عضواً في 8 كانون
الأوّل 1911. ويظهر ان تلامذة مدرسة الذكور التي أنشأها الأب يعقوب الكبوشي في غادير قد انضموا أيضاً إلى عضوية هذه الأخويّة. وعندما أُقفلت هذه المدرسة أُهملت أخويّة الذكور، وتحوّلت إلى جمعيّة نسائيّة.
* أخويّة قلب يسوع (للرجال)
تأسّست هذه الأخويّة في شهر شباط سنة 1927، وكانت هيئتها الادارية تتألف من السادة:
– المرشد الروحي : الخوري يوسف فارس الهوا
– يعقوب بركات البدوي : رئيساً
– اميل انطون راشد : نائباً للرئيس
– نعيم عبدالله الهوا : اميناً للصندوق
– سعيد خليل البستاني : عضواً
– مخايل عضيمي : عضواً
– يوسف حنا الخوري : عضواً
– كليم يوسف راشد : عضواً
وبتاريخ 22 كانون الثاني 1928 اتفق اعضاء الأخوية على «ضرورة تجديد انتخاب لجنة عاملة للأخوية، وطرح الانتخاب على التصويت» لاختيار ستة أعضاء، فنال أكثرية أصوات المجتمعين كل من السادة: يعقوب بركات البدوي، نعيم الهوا، يوسف حنا الخوري، سعيد خليل البستاني، فؤاد فرنسيس بواري، اميل انطون راشد وكليم راشد. ثم اجتمعت اللجنة المنتخبة يوم الأحد الواقع فيه 29 كانون الثاني 1928، وانتخبت الوظائف بالتصويت، ففاز:
– بالرئاسة : يعقوب بركات البدوي
– بنيابة الرئاسة : كليم راشد
– بامانة الصندوق : فؤاد فرنسيس بواري
– وبالعضوية السادة : يوسف حنا الخوري، سعيد خليل البستاني، اميل انطون راشد ونعيم الهوا.
أرادت اللجنة الإدارية الجديدة تنظيم نفسها والتمايز بين الجمعيات والأخويات المجاورة، فقررت بالاجماع في 25 تشرين الثاني 1928 ان يكون لها «علم» خاص بها. ولتحقيق ذلك كلّفت لجنة خاصة من أعضائها أمر الاهتمام بالموضوع وشراء العلم المنشود. وفي مساء اليوم عينه التأمت اللجنة الادارية من جديد وأعلنت:
– قيام اللجنة المصغّرة بزيارة دير راهبات اللعازارية في زوق
مكايل وشراء علم للأخوية بموجب القرار المتخذ في الجلسة الصباحية.
– تكليف الأعضاء السادة: كليم راشد ونعيم الهوا واميل راشد «الاهتمام بجلب طقم كراسي ومكتبة وبعض أدوات نثرية تلزم للأخوية وتصليح غرفة» تكون «تامة الشروط تليق للاجتماعات».
أنجزت الراهبات الراية بالسرعة المطلوبة وقبضن البدل المتفق عليه، ووقّعن إيصااًل برّأن فيه ذمة الجمعية، وجاء فيه: «وصلنا من اخوية قلب يسوع في غادير – مار فوقا- مبلغ احد عشر الفاً وستماية وخمسة غروش لا غير».
إلى جانب ما تقدم، قامت الأخوية بالعديد من النشاطات الاجتماعية، منها:
– تقديم المساعدات الممكنة لبعض العائلات «المستورة».
– تمثيل رواية «الفارس الأسود» في باحة الكنيسة بتاريخ الثالث والعشرين من تموز 1927 بمناسبة عيد مار فوقا.
– تقديم تمثال قلب يسوع في الأول من كانون الثاني 1928، وهو لا يزال موجوداً في صالون الرعيّة…