سيرة القديس الشهيد فوقا

تُكرّم الكنائس المسيحيّة (الكاثوليكيّة والارثوذكسيّة) ثلاثة شهداء قديسين باسم فُوْقا (Fouqa) أو فَوْقا (Fawqa) أو (Phocas):

1ـ القديس الأوّل: فوقا الانطاكي

نشأ هذا القديس في كيليكيا Cilicie في أيام الامبراطورية البيزنطية. وعندما شبّ وآمن بالمسيح جَحَدَهُ والداه من أجل إيمانه وأعماله الخيريّة، فتركهما وراح يخدم المساكين والفقراء. وأضحى طبيباً يشفي النفوس والأجساد. وعندما ذاع صيته حيكت ضده المؤامرات، وجدّ الحاكم في طلبه إلى ان أمسكه الجنود وربطوه بحبال وجرّوه ليطرحوه أمام الحاكم الذي طعنه طعنة الاستشهاد. وهكذا فاضت روح القديس في انطاكيا في 28 أيلول بحدود سنة 320.

شكّك فكتور صوما في حقيقة وجود هذا القديس، قائلاً بامكانية اختلاط الأمر على المؤرخين والمؤمنين، مما أدّى إلى الجمع بينه وبين القديس الأسقف.

2ـ القديس الثاني: أسقف سينوبيا Sinope

وُلد فوقا في مدينة سينوبيا، على ضفاف البحر الأسود في شمال تركيا الآسيوية، من أب وثني يدعى بامفيلوس Pamphile، كان يعمل في بناء المراكب، وأم اسمها ماري Marie. عندما اهتدى فوقا إلى المسيحيّة، منّ الله عليه بموهبة صنع العجائب وردّ الوثنيين إلى الايمان الصحيح. وتضيف سيرة حياته أنه أصبح أسقفاً على مدينته…

وبينما كان يدبّر رعيته، استدعاه يوماً الحاكم افريكانوس Africanus للمثول بين يديه واستجوابه. وعندما استجاب فوقا للأمر، كلفه الحاكم ان يضحّي للأوثان، فأبى، ودافع بجرأة عن ايمانه واعترف امامه بالسيد المسيح. فأنزل الحاكم به أقسى فنون العذاب، وضُرب وسُجن، وجُرح، ثم أُلقي به في أتون مضطرم حيث أسلم

الروح حوالى العام 101، في أيام الأمبراطور الروماني تريانوس Trajan (98-117).

إشتهر هذا القديس باسم «فوقا العجائبي»، وبات الأشهر في الشرق وبخاصة بين القديسين الذين يحملون الاسم نفسه. يحتفل المؤمنون بعيده في 22 ايلول من كل سنة…

3ـ القديس الثالث

هو فوقا الفلاح وشهيد سنوبيا Sinope أيضاً. وهو شفيع رعيّة من رعيتي غادير (كنيسة حارة جنبلاط)، تعيّد له، وتكرّمه في الثالث والعشرين من تموز.

عاش هذا القديس بين القرنين الثالث والرابع الميلاديين. يجهل المؤرخون تاريخ ولادته، وإنما يحدّدون وفاته شهيداً بين أواخر القرن الثالث ومطلع القرن الرابع، على عهد الأمبراطور الروماني مكسيميانوس هرقل (286-310)، وعهد البابا مرسلان القديس (295-304).

حياته واستشهاده  

كان فوقا مزارعاً من عامة الناس، يسكن بيتاً حقيراً على شاطئ البحر الأسود، ويقع بالقرب منه بستان يقوم بزراعته ويعيش من غلاله. كان محباً، يستقبل الفقراء، ويضيف الغرباء الذين يقصدونه في محنهم وفي اسفارهم، فيجدون في بيته القوت والأمان والطمأنينة، ويسترشدون به ويصلّون معه وينامون عنده، ويغادرونه رغما عنهم، مترددين… وكان معظم ضيوف فوقا من البحارة. لم يكن فقيهاً في العلوم الدينية، لكنه عمل بوحي الانجيل وآياته، حتى فاحت فضيلته عطراً ذكياً.

ذاع صيت فوقا في أوائل القرن الرابع، وبلغت أخبار ايمانه بالمسيح مسمعي الوالي الوثني، الذي أرسل جنداً للبحث عنه يوم كان يفتك بالذين يرفضون عبادة الأوثان، ولا يضحون لآلهة الأمبراطورية.

وذات مساء طرق باب فوقا مسافران غريبان دهمتهما عتمة الليل وحالت دون سفرهما. استقبلهما فوقا ببشاشته المعروفة، وأكرم وفادتهما، وأجلسهما للعشاء إلى مائدته وجاد عليهما بعنايته واهتمامه.

استأنس الضيفان بصاحب المقام، وتولدت بينهم صداقة واضحة. فسأل المضيف ضيفيه عن غاية سفرهما إلى بلاده، فكشفا له سرّ مجيئهما، واعترفا له بأنهما جنديان يسعيان إلى إلقاء القبض على رجل يبشّر بدين المسيح اسمه فوقا. وهما يحملان أوامر مشدّدة تقضي بالقبض عليه وقتله. ثم طلبا منه ان يرشدهما إليه لئلا يُحكم عليهما بالإعدام في حال فشلهما.

سمع فوقا هذا الكلام، وظلّ متماسكاً بدون ان تظهر علامات الانفعال أو التأثر على وجهه، واستمر في الإصغاء إليهما بكل هدوء ورباطة جأش حتى أنهيا الكلام. وبعد ان تثبّت من صدقهما طمأنهما بأنه سيقوم بخدمتهما، وأكّد لهما انهما سيجدان فوقا واقفاً أمامهما في صباح الغد في البستان. ثم تمنّى لهما نوماً هنيئاً…

وبينما كان الضيفان يغطان في نوم عميق، صرف فوقا ليلته في حفر قبره في احدى زوايا بستانه. ولما بزغ الفجر أيقظ الضيفين وأخذهما إلى الحفرة وقال لهما: ان فوقا الذي تنشدانه هو بين ايديكما…

اضطرب الغريبان، واستولت عليهما الدهشة، وبَدَوا كأنهما يتساءلان:

كيف تُرفع يد القتل على رجل كريم كهذا، اشبعهما من عيشه وسحرهما بلطفه وحسن استقباله ومعاملته؟ وكيف تسنح الظروف لرجل ان يفرّ من الموت ولا يفعل ذلك، بل يأتي ويضع عنقه تحت السيف؟ لكن فوقا طيّب خاطريهما بقوله إن الجريمة تقع على عاتق الآمر بها، وهو لا يريد ان يهلك أحد بسببه، وما هما إلا رسولين مكلفين بتنفيذ الأمر. وأخذ يشجعهما ويقول: أضربا ولا خوف عليكما…

كما راح يحثّهما على إتمام الواجب الملقى على عاتقهما حتى قاما إليه وضربا عنقه، فتدحرج رأسه وسالت دماؤه الذكية… ثم دُفن جثمانه في الحفرة التي أعدّها بيديه الطاهرتين…

قداسته وشفاعته            

مات فوقا شهيداً، وغدت روايته موضع فخر واعتزاز لمواطنيه وبلاده، وأضحى قبره منارة يَسترشد بها البحارة من وراء البحار، ويحيّونه عن بعد كأنهم يحيّون منارة مقدسة.

كتب عنه القديس أستيرASTERE ما ترجمته:

كان الذين يمرون ببيزنطيا ويعبرون البحر الادرياتيكي وبحر ايجه والمحيط، يعالجون قلقهم وتعبهم بتسابيح يرفعونها على شرف القديس الشهيد الذي لا يبرح اسمه شفاههم. وكان هو يعطيهم علامات خاصة تدل على حضوره وشفاعته ومساندتهم…

واعتاد البحارة المسافرون دعوة القديس فوقا إلى مائدتهم، كما كان يفعل في حياته. وبما انه غير موجود فعلياً فقد خصّصوا لكل يوم حصة من المأكل سموها «حصة الشهيد»، فيشتريها أحدهم في اليوم الأوّل من الإبحار، ويشتريها آخر في اليوم الثاني، ثم الثالث والرابع… وحين يصل المركب إلى المرفأ كانوا يوزّعون مجموع الحصص المشتراة على الفقراء…

شملت شفاعة القديس البحارة والملاحين والمسافرين وجميع طبقات الشعب، وكانوا يزورون قبره ويقدمون النذور لمنزله، ولم يمض زمن حتى أضحى هذا المنزل الحقير بيتاً فخماَ يزدان بالهدايا والتقادم النفيسة.

▪ في بيزنطيا

بعد مضي ثلاثة أجيال على استشهاد فوقا وانتشار اسمه وقداسته، تحرّكت الغيرة في قلوب البيزنطيين، وسمح لهم بنقل ذخيرة من رفات الشهيد المقدّسة إلى عاصمتهم بيزنطيا. فتمّ ذلك باحتفال مهيب استغرق يومين متتاليين حضره الأمبراطور وحاشيته، وترأسه الأسقف القديس يوحنا فم الذهب، ونقلوا الذخيرة عبر مضيق البوسفور على متون سفن ازدانت بالأنوار وبأبهى معالم الزينة… وواكبت الذخيرة إلى الكنيسة التي شيّدت خصيصاً للقديس فوقا…

* الإشكال التاريخي:

أُشكلت سيرة القديس فوقا على الكتّاب الكنسيين، فخلطوا بين فوقا الشهيد وفوقا الأسقف وفوقا الفلاح، مما أدّى إلى دمج سِيَر القديسين الثلاثة وضياع فرادة كل واحد منهم. ويرجح الأرشمندريت توما بيطار ان هناك علاقة وثيقة بين القديسين نهرا وفوقا، مستنداً إلى ما ورد عند بعض المؤرخين المهتمين بتاريخ الكنيسة. فمن يدعوه الموارنة في 13 تشرين الأول نهرا، وفي 23 تموز فوقا، يطلق عليه السريان اليعاقبة، في الزمنين معاً، فوقا؛ والذي يسميه السنكسار الماروني نهرا في 22 تموز وفوقا في 23

تموز، سمّاه ابن القلاعي مار فوقا ومار نهرا معاً.

يضاف إلى ما تقدم ان اسم فوقا يعني النور في اليونانية، وان اسم نهرا يعني النور أيضاً ولكن في السريانية…