وللمناسبة، ألقى البابا عظة قال فيها بحسب “فاتيكان نيوز”: “”متى جاء البارقليط، الّذي أرسله اليكم من لدن الآب” بهذه الكلمات يعد يسوع تلاميذه بالرّوح القدس، العطيّة النّهائيّة، عطيّة العطايا. ويتحدّث عنه مستعملاً عبارة مميّزة وغامضة: البارقليط. لنقبل اليوم هذه الكلمة الّتي يصعب ترجمتها بقدر ما تحتوي في داخلها على معانٍ كثيرة. إنّ كلمة بارقليط تعني أمرين: المعزّي والمحامي. البارقليط هو المعزّي. جميعنا ولاسيّما في الأوقات الصّعبة، كتلك الّتي نعبر بها، نبحث عن تعزيات. ولكنّنا غالبًا ما نلجأ فقط إلى تعزيات أرضيّة تزول سريعًا. يقدّم لنا يسوع اليوم تعزية السّماء، الرّوح القدس، “المعزّي الكامل”. ما هو الفرق؟ إنّ تعزيات العالم هي كالمخدِّر: تعطي عزاء مؤقّتًا ولكنّها لا تشفي الشّرّ العميق الّذي نحمله في داخلنا؛ تلهينا ولكنّها لا تشفينا. تعمل على السّطح، على مستوى الحواس لا على مستوى القلب. لأنّه وحده الّذي يجعلنا نشعر بأنّنا محبوبين كما نحن يعطي السّلام للقلب. هكذا يفعل الرّوح القدس، محبّة الله: ينزل في داخلنا وكروح يعمل في روحنا. يزور “عمق قلوبنا” كـ”ضيف النّفس اللّطيف”. إنّه حنان الله عينه الّذي لا يتركنا وحدنا؛ لأنّ البقاء مع من هو وحده هو تعزية.
أيتها الأخت وأيها الأخ، إذا شعرت بظلام الوحدة وإذا كنت تحمل في داخلك ثقلاً يخنق الرجاء، إذا كان لديك في قلبك جرح يحرق، وإذا لم تجد مخرجًا، افتح نفسك على الرّوح القدس. فهو، يكتب القدّيس بونافنتورا، “يحمل تعزية كبرى حيث هناك محنة كبرى، ليس كما يفعل العالم الّذي يعزّي في الازدهار ويتملّق فيما يسخر في الشّدائد ويدين”. هكذا يفعل العالم، هكذا يفعل بشكل خاصّ الرّوح العدوّ، الشّيطان: في البداية يتملّقُنا ويجعلنا نشعر بأنّنا لا نُقهر، ثمّ يرمينا أرضًا ويُشعرنا بالخطأ. يفعل كلّ شيء ليُحبطنا، بينما يريد روح القائم من الموت أن يرفعنا. لننظر إلى الرّسل: لقد كانوا وحيدين وتائهين، كانوا خلف أبواب مغلقة يعيشون في الخوف وأمام أعينهم جميع نقاط ضعفهم وإخفاقاتهم. إنّ السّنوات الّتي قضوها مع يسوع لم تغيِّرهم. ومن ثمّ نالوا الرّوح القدس وتغيّر كلّ شيء: بقيت المشاكل والعيوب كما هي، ومع ذلك ما عادوا يخافون منها أبدًا ولم يخافوا حتّى أولئك الذين يريدون إيذائهم. شعروا بالعزاء في داخلهم وأرادوا أن يسكبوا عزاء الله على الآخرين. كانوا خائفين في البداية أمّا الآن فهم يخافون فقط من عدم الشّهادة للحبّ الّذي نالوه. ويسوع قد تنبّأ بذلك: إنّ الرّوح القدس “يشهد لي؛ وأَنتُم أَيضًا تَشهَدون”.
نحن أيضًا مدعوّون لنشهد بالرّوح القدس، لنصبح بارقليطيّين ومُعزّين. نعم، إنّ الرّوح القدس يطلب منّا أن نجسِّد تعزيته. كيف؟ ليس من خلال إلقاء خطابات كبيرة، وإنّما بجعلنا قريبين؛ لا بكلمات الظّروف وإنّما بالصّلاة والقرب. يقول البارقليط للكنيسة إنّ اليوم هو زمن التّعزية. إنّه زمن الإعلان الفرِح للإنجيل أكثر من الكفاح ضدّ الوثنيّة. إنّه زمن حمل فرح القائم من الموت وليس لكي نتذمّر بسبب مأساة العولمة. إنّه الزّمن لكي نفيض المحبّة على العالم بدون أن نتبنّى روح العالم. إنّه الزّمن لكي نشهد للرّحمة بدلاً من أن نزرع القواعد والأعراف. إنّه زمن البارقليط!
البارقليط من ثمَّ هو المحامي. في السّياق التّاريخيّ ليسوع، لم يكن المحامي يقوم بوظائفه كما يفعل اليوم: فبدلاً من التّحدّث نيابة عن المتّهم، كان عادةً قريبًا منه ويقترح عليه الحجج في أذنه لكي يدافع عن نفسه. وكذلك يفعل البارقليط، “روح الحقّ”، الّذي لا يحلّ مكاننا، بل يدافع عنّا ضدّ أكاذيب الشّرّ ويلهمنا أفكارًا ومشاعرًا. وهو يقوم بذلك بلطف، دون أن يجبرنا: هو يقترح نفسه ولكنّه لا يفرضها. أمّا روح الباطل، الشّرّير، فيفعل العكس: هو يحاول أن يجبرنا، ويريدنا أن نصدّق أنّنا مُجبرون دائمًا على الاستسلام للاقتراحات السّيّئة ودوافع الرّذائل. لنحاول إذًا أن نقبل ثلاثة اقتراحات نموذجيّة من البارقليط، محامينا. إنّها ثلاث ترياقات أساسيّة ضدّ العديد من الإغراءات المنتشرة اليوم.
إنَّ النّصيحة الأولى للرّوح القدس هي: “عِش في الحاضر”. الحاضر لا الماضي ولا المستقبل. إنَّ البارقليط يؤكِّد على أولويّة الحاضر، ضدّ تجربة أن نسمح لمرارة وحنين الماضي بأن يشُلاننا، أو التّركيز على شكوك الغد والسّماح لمخاوف المستقبل بأن تستحوذ علينا. يذكرنا الرّوح القدس بنعمة الحاضر. لا يوجد وقت أفضل بالنّسبة لنا: الآن، حيث نحن، هي اللّحظة الفريدة الّتي لا تتكرّر لكي نفعل الخير، ونجعل الحياة عطيّة. لنعِش في الحاضر!
من ثمّ إن البارقليط ينصح: “يبحث عن الأشخاص بكلِّيّتهم”، وليس كجزء. إنَّ الرّوح القدس لا يصوغ أفرادًا منغلقين، بل يؤسّسنا ككنيسة في مجموعة متنوّعة من المواهب، في وحدة لا تُصبح أبدًا تطابقًا. إنَّ البارقليط يؤكِّد أولويّة الأشخاص بكلِّيّتهم. وبشكل عامّ، يعزّز الرّوح القدس العمل في الجماعة ويحمل الحداثة. لننظر إلى الرّسل. لقد كانوا مختلفين جدًّا: من بينهم، على سبيل المثال، كان هناك متّى، عشّار كان يتعاون مع الرّومان، وسمعان، المسمّى “الغيور”، الّذي كان يعارضهم. كانت هناك أفكار سياسيّة متعارضة، ووجهات نظر مختلفة للعالم. لكن عندما نالوا الرّوح، تعلّموا ألّا يعطوا الأولويّة لآرائهم البشريّة، وإنّما إلى الله ككلّ. واليوم، إذا أصغينا إلى الرّوح القدس، فلن نركّز على المحافظين والتّقدّميّين، والتّقليديّين والمُجدِّدين، اليمين واليسار: إذا كانت هذه هي المعايير، فهذا يعني أنّ الكنيسة قد نسيت الرّوح القدس. إنَّ البارقليط يدفع إلى الوحدة والوئام والتّناغم في التّنوّع. هو يظهر لنا أعضاء الجسد عينه، إخوة وأخوات فيما بيننا. لنبحث إذًا عن الأشخاص بكلِّيّتهم!
وختامًا النّصيحة الثّالثة العظمى: “ضع الله قبل الأنا”. إنّها الخطوة الحاسمة في الحياة الرّوحيّة، الّتي ليست مجموعة من استحقاقاتنا وأعمالنا، وإنّما قبول متواضع لله. إنَّ البارقليط يؤكّد على أولويّة النّعمة. إن أفرغنا ذواتنا فقط نفسح المجال للرّبّ؛ وإن أوكلنا أنفسنا له فقط نجد ذواتنا، وإن كنّا فقراء بالرّوح فقط نصبح أغنياء بالرّوح القدس. وهذا الأمر ينطبق على الكنيسة أيضًا. نحن لا نُخلّص أحدًا ولا حتّى أنفسنا بقوّتنا الخاصّة. إذا كانت مشاريعنا وهيكليّاتنا وخططنا الإصلاحيّة في المقام الأوّل، فسوف ننزلق إلى الوظيفيّة والفعّاليّة والأفقيّة ولن نؤتي ثمارًا. إنَّ الكنيسة ليست منظّمة بشريّة، بل هي هيكل الرّوح القدس. ويسوع قد حمل نار الرّوح القدس إلى الأرض، والكنيسة تُصلح بمسحة النّعمة وقوة الصّلاة وفرح الرّسالة وبجمال الفقر. لنضع الله إذًا في المركز الأوّل!
أيّها الرّوح القدس، الرّوح البارقليط، عزِّ قلوبنا. إجعلنا رسلاً لتعزيتك، بارقليطيّين للرّحمة في العالم. يا محامينا، يا مُلهم النّفس اللّطيف، اجعلنا شهودًا لحاضر الله، وأنبياء وحدة للكنيسة والبشريّة، ورُسُلاً مؤسَّسين على نعمتك، الّتي تخلق كلّ شيء وتجدّد كلَّ شيء.”